ضرورة تعدد الاجتهادات المؤصلة وتوسيع دائرة التيسير في فقه المواقيت

 

 الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين.

تُثار في نهايات الربيع وبدايات الصيف ، في بلدان الوسط والشمال الأوروبي أسئلة كثيرة تدور حول التيسير الذي اتسم به خطاب التكليف والمشقة المعتبرة التي يعاني منها الذين هم على صلاتهم يحافظون ، الأمر الذي يُوقع الكثيرين بين صراعين :

  • الصراع النفسي ، وهو الأكبر ، والذي يتمثل بضرورة الالتزام بوقت الصلاة مهما كان وقتها.
  • والصراع البدني المتمثل بعدم القدرة على تحمل مشقة هذا الالتزام لشهور عدة.

ولقد انتشرت بين الناس اجتهادات وفتاوى انبثقت عن هيئات معتبرة في أوروبا بُنيت على مقصد التخفيف والتيسير ، وهي وإن سعت إلى الوصول إلى هذا المقصد إلا أنها لم تحلّ أزمة المعاناة اليومية لكثير من الناس ، وسأحاول من خلال هذه الكلمات إلقاء الضوء على بعض الجوانب المفصلية التي قد تساعد في الوصول إلى توسيع دائرة التيسير وتأصيله ضمن المعطيات الفلكية السائدة والمتكررة في أواسط كل عام ميلادي :

فتوى الجمع بين المغرب والعشاء

انتشرت في أوروبا مؤخراً فتوى جواز الجمع والاستمرار عليه بين صلاتي المغرب والعشاء في مدة محددة من العام ؛ تبدأ في الثامن عشر من الشهر الخامس وتنتهي في السابع من الشهر الثامن ، وقد أكد مصدرو الفتوى مشكورين على أن المنطلق في تحديد فترة الجمع هو رفع الحرج وليس غياب علامة صلاة العشاء.

إلا أن تحديد الفترة السابقة كفترة للجمع في بلدان أوروبية متعددة لا يصل بنا إلى مقصد رفع الحرج كاملاً بل يرفعه جُزئياً ؛ للتباين الشديد في طول الليل والنهار بين هذه البلدان في نفس هذه الفترة المحددة ، الأمر الذي يستدعي وجود ضابط مرن يُحدد فترة الجمع لكل مدينة من المدن.

يمكننا بداية اعتماد فترة التقدير لصلاة العشاء كضابط لإمكانية جمعها مع صلاة المغرب ؛ فحيث قُدر وقت العشاء ولم يُلتزم بوقتها الحقيقي جاز الجمع ؛ لأن التقدير في حقيقته صورة من صور الجمع الاجتهادي حيث يُقدر وقت صلاة العشاء قبل وقتها الحقيقي (أي في فترة صلاة المغرب) وفقاً لما اجتُهد فيه من خطة التقدير ، وليس الحديث هنا عن حُجية التقدير وما قام عليه من أسس شرعية ، ولكني أريد أن أخلص إلى أن أدلة الجمع (السني) التي وردتنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوى من دليل أي صورة اجتهادية أخرى للجمع ، فأخلص من ذلك إلى إمكانية جمع صلاة العشاء مع المغرب طيلة الفترة الزمنية التي يُقدر فيها وقت العشاء تقديراً معتبراً.

ولا يخفى علينا ما في هذا الضابط من توسيع لفترة الجمع ، ومن ضبط دقيق لبدايتها ونهايتها باعتبار موقع المدينة الجغرافي ، فما على مصدري مواقيت الصلاة إلا بيان الفترة التي يُقدرون فيها لصلاة العشاء في جداولهم السنوية ، ولأجل ذلك تم اتباع نظام الألوان في الجداول المتوفرة في هذه الصفحة، فحيث كُتب وقت الصلاة باللون الأسود فهو وقتها الحقيقي وفق علامتها الشرعية ، وحيث كتب باللون الأزرق فهو وقت مقدر مع وجود وقت حقيقي لعلامة الصلاة ، وحيث كتب الوقت باللون الأحمر فهو وقت تقديري مع غياب علامة الصلاة.

يمكننا من خلال الجدول التالي أن نتبين التوسع في مدة الجمع بناء على الضابط السابق ، وقد اعتمدت في تحديد مدة التقدير لصلاة العشاء جداول المواقيت لعام 2023 التي توفرها هذه الصفحة مع أن فترة التقدير في كثير من الجداول المعتمدة في أوروبا قد تزيد على ذلك:

المشقة في انتظار غروب الشمس

 

لا يخفى على أحد أن هناك شريحة كبيرة في المجتمع المسلم ممن يعيشون في أوروبا تعاني من تأخر صلاة المغرب في أيام الصيف ، إذ قد يتجاوز وقتها الساعة العاشرة مساء ، وقد يتأخر في بعض المدن إلى أكثر من هذا بكثير ، الأمر الذي قد يوقع الكثير منهم في الحرج.

ولا يخفى على أحد أيضاً أن مسألة التقدير لصلاة المغرب قبل الغروب الحقيقي للشمس مسألة فقهية شائكة جداً ، إلا أنه لا مفر لنا في كثير من البلدان الواقعة في أقاصي الشمال الأوروبي من التقدير لاعتبارات كثيرة ، وبالتالي لن أتعرض لفكرة التقدير قبولاً أو رفضاً ، بل سأتعرض لبعض الأسس والمرتكزات التي تدور حول موضوع: متى يبدأ التقدير لصلاة المغرب؟.

يبدأ معظم مصدري المواقيت ومنهم رئاسة الشؤون الدينية التقدير لصلاة المغرب ابتداءً من البلدان الواقعة فوق خط العرض 60 درجة ، ولكن ما هو حال المدن الواقعة تحت خط العرض هذا ؟. وبالخصوص البلدان الواقعة فوق خط العرض 58 إلى 60 درجة ، في هذه البلدان يبدأ مصدرو المواقيت بالتقدير لصلاة العشاء في مدينة ما عند ساعة زمنية معينة وفق منهج التقدير المعتمد لديهم ، مبررين ضرورة التقدير لصلاة العشاء بالمشقة الواقعة من تأخر وقتها ، ولكنهم لا يقدرون وقت صلاة المغرب إن وصل في نفس المدينة لهذه الساعة الزمنية أو تجاوزها ؛ الأمر الذي يؤدي إلى تناقض عقلي في منهجية التقدير ، كما أن فيه مخالفة صريحة للقاعدة الأصولية التي تنص على قطعية الدلالة في المسكوت عنه ، فالنهي عن عقوق الوالدين في قول الله تعالى : «ولا تقل لهما أف» يفهم منه أيضاً قطعية النهي فيما كان فوق الأف من العقوق ، فدلالة المشقة الواقعة في وصول وقت العشاء إلى ساعة زمنية معينة تعني قطعاً وقوع مشقة أكبر إذا وصل وقت المغرب إلى هذه الساعة الزمنية في نفس المدينة أو تجاوزها.

نستنتج مما سبق أن مسألة بداية التقدير لصلاة المغرب مسألة مازالت تحتاج إلى مزيد دراسة وبحث ، علنا نصل إلى اجتهاد فقهي مؤصل يرفع الحرج عن عموم المسلمين.

الجدول التالي يبين وقت العشاء عند بداية التقدير لها بسبب المشقة ، كما يبين عدد الأيام التي يتجاوز فيها وقت صلاة المغرب هذا الوقت:

تقدير صلاة الفجر في فترة غياب علامته

يبدأ الليل الفلكي في الليالي المعتدلة بغروب الشمس وينتهي عند طلوعها ، ويُقسم إلى نصفين: الأول منهما يبدأ عند غروب الشمس وينتهي عند وصولها إلى أدنى درجة انخفاض ستصلها الشمس في هذه الليلة ، بعد ذلك مباشرة يبدأ النصف الثاني ، حيث تبدأ الشمس بالارتفاع متجهة إلى الأفق الشرقي ، وينتهي عند طلوعها ، مع العلم أن قيمة أدنى درجة انخفاض للشمس تتغير كل ليلة ؛ الأمر الذي ينتج عنه اختلاف طول الليل بين الصيف والشتاء.

هذا من ناحية ومن ناحية أخرى نلحظ أن السِّمة البارزة في النصف الأول من الليل الفلكي هي التلاشي التدريجي للضوء، حيث يبدأ بدخول وقت صلاة المغرب ، ثم يغيب الشفق الأحمر عند وصول الشمس إلى الدرجة 17 تحت الأفق ، فيدخل وقت صلاة العشاء ، ثم تستمر الشمس في الانخفاض حتى يسود الظلام الدامس إن تجاوز انخفاضها الدرجة 18 تحت الأفق الغربي ، ثم تنخفض وتنخفض حتى تصل إلى أدنى درجة انخفاض يمكن أن تصلها في هذه الليلة ، فاتجاه حركة الشمس في هذا النصف الأول هو النزول وبسببه يتخافت الضوء ، أما اتجاه حركة الشمس في النصف الثاني من الليل الفلكي فهو الصعود نحو الأفق الشرقي ، فإذا وصلت إلى الدرجة 18 تحت هذا الأفق ينتهي الظلام الدامس ويدخل وقت الفجر كخيط أبيض مستعرضِ الأفق الشرقي ، ثم يزداد نور الفجر رويداً رويداً حتى تطلع الشمس.

ما أريد التأكيد عليه من هذا التفصيل هو أن النصف الأول من الليل الفلكي يحوي صلاتي المغرب والعشاء وطبيعة حركة الشمس فيه الانخفاض ، وبالتالي التلاشي التدريجي للضوء ، وأن النصف الثاني يحوي صلاة الفجر وطبيعة حركة الشمس فيه الارتفاع الذي يؤدي إلى الزيادة التدريجية في الضوء بعد دخول وقت الفجر ، وأن الفترة الكاملة لصلاة الفجر تبدأ عادة عند وصول الشمس إلى الدرجة 18 تحت الأفق الشرقي وتنتهي عند طلوع الشمس.  

هذه المقدمة توصلنا إلى لبّ موضوعنا وهو متى ينتهي وقت صلاة العشاء ومتى يبدأ وقت الفجر إن لم يصل أدنى انخفاض للشمس إلى الدرجة 18 تحت الأفق؟

هذه الظاهرة ، ظاهرة عدم انخفاض الشمس تحت الدرجة 18 ، تسود في منتصف كل عام ميلادي في الوسط والشمال الأوروبي ولأسابيع عديدة ، والتي اصطلح على تعريف فترتها بفترة غياب علامة الفجر.

بناء على ما تقدم نستنتج أن وقت منتصف الليل الفلكي في الليالي التي تغيب فيها علامة الفجر هو الوقت الفاصل بين نهاية وقت صلاة العشاء وبين بداية وقت صلاة الفجر؛ فصلاة العشاء ، وإن غابت علامتها ، يجب أن تؤدى ، تقديراً أو جمعاً مع صلاة المغرب ، قبل وقت منتصف الليل الفلكي في مثل هذه الليالي ؛ لأن الوقت بعده هو أول ما ندركه من فترة صلاة الفجر ، ولبيان ذلك أضرب المثال التالي:

إذا كان أدنى انخفاض للشمس في ليلة من الليالي يصل إلى الدرجة العاشرة تحت الأفق فهذا يعني أن وقت وصول الشمس إلى هذه الدرجة هو وقت منتصف هذه الليلة الفلكي ، وهو أيضاً آخر وقت صلاة العشاء ؛ لأن الشمس تبدأ بعد هذا الوقت بالارتفاع نحو الأفق الشرقي وتبدأ بارتفاعها الزيادة في الإضاءة إلى أن تطلع الشمس، هذا يعني أننا لم ندرك فترة صلاة الفجر من بدايتها ، ولكننا أدركناها أول ما أدركناها في الوقت الذي بدأت فيه الشمس بالارتفاع ، وهذا الوقت هو وقت منتصف هذه الليلة الفلكي.

في فترة غياب علامة الفجر يجتهد معظم مصدري المواقيت في تقدير وقت صلاة الفجر قُبيل طلوع الشمس بقليل حتى يتيحوا فترة أطول للنوم بعد صلاة العشاء ، وما أريد التأكيد عليه بعد كل هذا السرد هو أن هذا الوقت قد قُدر لاعتبارات المشقة والحرج ، ولا يعني أبداً أنه لا يمكننا أداء صلاة الفجر قبل هذا الوقت إن كان أداؤها قبله يرفع الحرج ، فكما ذُكر سابقاً فبداية فترة صلاة الفجر عند غياب علامته تبدأ من منتصف الليل الفلكي، فمن أداها بعد منتصف الليل الفلكي فقد أداها في فترتها وإن كان وقت أدائها قبل الوقت المقدر في جداول المواقيت ، ونستطيع بكل يُسر حساب وقت نصف الليل الفلكي بإضافة 12 ساعة على وقت صلاة الظهر فيكون الناتج بداية فترة صلاة الفجر تقريباً ، وأكرر أن كل ما ذكر سابقاً لا يؤخذ به إلا في فترة غياب علامة الفجر.

ما ذكر آنفاً ليس بدعاً من القول أو اجتهاداً جديداً في التقدير بل إن هناك جهات معتبرة ، كسمرقند وفضيلة وغيرهما ، لا تؤمن بفكرة التقدير لصلاة الفجر في فترة غياب علامته فتجعل أول وقته هو وقت منتصف الليل الفلكي ، أي أول ما ندركه من فترة صلاة الفجر كما سلف بيانه ، بل يعتبر كثير ممن يعتمدون جداولهم أن المشقة والحرج سيكونان أكبر عند تأخير وقت الفجر إلى قُبيل طلوع الشمس ، وفي الأمر نظر ففي فترة غياب علامة الفجر باستوكهولم يمكن بناء على ما تقدم أن تُؤدى صلاة الفجر على الساعة الواحدة ليلاً ثم ينعم المرء بعدها بنوم متصل إلى الساعة السابعة صباحاً أو بعدها ليذهب إلى عمله ، أما إن ألزم نفسه بالوقت المقدر فسيضطر إلى الاستيقاظ على الساعة الثالثة قبل شروق الشمس لأداء صلاة الفجر ثم ليعاود النوم إن راوده النوم قبل الذهاب إلى عمله ، فلا يهنأ بنوم كاف قبل الفجر أو بعده.

ليس القصد من هذا الطرح ترجيح اجتهاد على اجتهاد ، وإنما القصد كما ذُكر في البداية التوسع في دائرة الاجتهاد المؤصل ، ليجد كل فرد ما يعينه على أداء عبادته بالصورة التي تتفق مع نمط حياته في بلاد الغرب.

ولقد قام أحد الأساتذة مشكوراً في السويد بتصوير نتبين من خلاله ظاهرة التلاشي التدريجي للضوء قبل وصول الشمس إلى وقت منتصف الليل الفلكي إلا أنه لا يصل إلى الظلام الدامس ، ثم الازدياد التدريجي في نسبة الإضاءة بعد ذلك ، (قمر ذي الحجة في ربعه الأخير):

محمد سليم البغا